فصل: الحالة الثّانية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


ضمان الاصطدام

تناول الفقهاء حوادث الاصطدام، وميّزوا بين اصطدام الإنسان والحيوان، وبين اصطدام الأشياء كالسّفن ونحوها‏.‏

أوّلاً‏:‏ اصطدام الإنسان

118 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا اصطدم الفارسان خطأً وماتا منه ضمنت عاقلة كلّ فارس دية الآخر إذا وقعا على القفا، وإذا وقعا على وجوههما يهدر دمهما‏.‏

ولو كانا عامدين فعلى عاقلة كلّ نصف الدّية، ولو وقع أحدهما على وجهه هدر دمه فقط‏.‏ وإذا تجاذب رجلان حبلاً فانقطع الحبل، فسقطا على القفا وماتا هدر دمهما، لموت كلّ بقوّة نفسه، فإن وقعا على الوجه وجب دية كلّ واحد منهما على الآخر، لموته بقوّة صاحبه‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ إن تصادم مكلّفان عمداً، أو تجاذبا حبلاً فماتا معاً، فلا قصاص ولا دية وإن مات أحدهما فقط فالقود‏.‏

وإن تصادما خطأً فماتا، فدية كلّ واحد منهما على عاقلة الآخر، وإن مات أحدهما فديته على من بقي منها‏.‏

وإن كان التّجاذب لمصلحة فلا قصاص ولا دية، كما يقع بين صنّاع الحبال فإذا تجاذب صانعان حبلاً لإصلاحه فماتا أو أحدهما فهو هدر‏.‏

ولو تصادم الصّبيّان فماتا، فدية كلّ واحد منهما على عاقلة الآخر، سواء حصل التّصادم أو التّجاذب بقصد أو بغير قصد، لأنّ فعل الصّبيان عمداً حكمه كالخطأ‏.‏

وذهب الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّه إذا اصطدم شخصان - راكبان أو ماشيان، أو راكب وماش طويل- بلا قصد، فعلى عاقلة كلّ منهما نصف دية مخفّفة، لأنّ كلّ واحد منهما هلك بفعله، وفعل صاحبه، فيهدر النّصف، ولأنّه خطأ محض، ولا فرق بين أن يقعا منكبّين أو مستلقيين، أو أحدهما منكبّاً والآخر مستلقياً‏.‏

وإن قصدا الاصطدام فنصف الدّية مغلّظةً على عاقلة كلّ منهما لورثة الآخر، لأنّ كلّ واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه، فيهدر النّصف، ولأنّ القتل حينئذ شبه عمد فتكون الدّية مغلّظةً، ولا قصاص إذا مات أحدهما دون الآخر، لأنّ الغالب أنّ الاصطدام لا يفضي إلى الموت‏.‏

والصّحيح أنّ على كلّ منهما في تركته كفّارتين‏:‏ إحداهما لقتل نفسه، والأخرى لقتل صاحبه، لاشتراكهما في إهلاك نفسين، بناءً على أنّ الكفّارة لا تتجزّأ‏.‏

وفي تركة كلّ منهما نصف قيمة دية الآخر، لاشتراكهما في الإتلاف، مع هدر فعل كلّ منهما في حقّ نفسه‏.‏

ولو تجاذبا حبلاً فانقطع وسقطا وماتا، فعلى عاقلة كلّ منهما نصف دية الآخر، سواء أسقطا منكبّين أم مستلقيين، أم أحدهما منكبّاً والآخر مستلقياً، وإن قطعه غيرهما فديتهما على عاقلته‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا اصطدم الفارسان، فعلى كلّ واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابّة أو مال، سواء كانا مقبلين أم مدبرين، لأنّ كلّ واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنّما هو قربها إلى محلّ الجناية، فلزم الآخر ضمانها كما لو كانت واقفةً إذا ثبت هذا، فإنّ قيمة الدّابّتين إن تساوتا تقاصّا وسقطتا، وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزّيادة، وإن ماتت إحدى الدّابّتين فعلى الآخر قيمتها، وإن نقصت فعليه نقصها‏.‏

فإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر، فأدركه الثّاني فصدمه فماتت الدّابّتان، أو إحداهما فالضّمان على اللاحق، لأنّه الصّادم والآخر مصدوم، فهو بمنزلة الواقف‏.‏

وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفاً، فعلى السّائر قيمة دابّة الواقف، نصّ أحمد على هذا لأنّ السّائر هو الصّادم المتلف، فكان الضّمان عليه وإن مات هو أو دابّته فهو هدر، لأنّه أتلف نفسه ودابّته، وإن انحرف الواقف فصادفت الصّدمة انحرافه فهما كالسّائرين، لأنّ التّلف حصل من فعلهما، وإن كان الواقف متعدّياً بوقوفه، مثل أن يقف في طريق ضيّق فالضّمان عليه دون السّائر، لأنّ التّلف حصل بتعدّيه فكان الضّمان عليه، كما لو وضع حجراً في الطّريق، أو جلس في طريق ضيّق فعثر به إنسان‏.‏

وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا، فعلى عاقلة كلّ واحد منهما دية الآخر، روي هذا عن عليّ رضي الله عنه والخلاف - هاهنا - في الضّمان كالخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان، إلاّ أنّه لا تقاصّ - هاهنا - في الضّمان، لأنّه على غير من له الحقّ، لكون الضّمان على عاقلة كلّ واحد منهما، وإن اتّفق أن يكون الضّمان على من له الحقّ مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة، أو يكون الضّمان على المتصادمين تقاصّا، ولا يجب القصاص سواء كان اصطدامهما عمداً أو خطأً، لأنّ الصّدمة لا تقتل غالباً، فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ‏.‏

ثانياً‏:‏ اصطدام الأشياء

السّفن والسّيّارات

119 - قال الفقهاء‏:‏ إذا كان الاصطدام بسبب قاهر أو مفاجئ، كهبوب الرّيح أو العواصف، فلا ضمان على أحد‏.‏

وإذا كان الاصطدام بسبب تفريط أحد ربّاني السّفينتين - أو قائدي السّيّارتين - كان الضّمان عليه وحده‏.‏

ومعيار التّفريط - كما يقول ابن قدامة - أن يكون الرّبّان - وكذلك القائد - قادراً على ضبط سفينته - أو سيّارته - أو ردّها عن الأخرى، فلم يفعل، أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل، أو لم يكمل آلتها من الحبال والرّجال وغيرها‏.‏

وإذا كانت إحدى السّفينتين واقفةً، والأخرى سائرةً، فلا شيء على الواقفة، وعلى السّائرة ضمان الواقفة، إن كان القيّم مفرّطاً‏.‏

وإذا كانتا ماشيتين متساويتين، بأن كانتا في بحر أو ماء راكد، ضمن المفرّط سفينة الآخر، بما فيها من مال أو نفس‏.‏

أمّا إذا كانتا غير متساويتين، بأن كانت إحداهما منحدرةً، والأخرى صاعدةً فعلى المنحدر ضمان الصّاعدة، لأنّها تنحدر عليها من علوّ، فيكون ذلك سبباً في غرقها، فتنزل المنحدرة منزلة السّائرة، والصّاعدة منزلة الواقفة، إلاّ أن يكون التّفريط من المصعد فيكون، الضّمان عليه، لأنّه المفرّط‏.‏

وقال الشّافعيّة في اصطدام السّفن‏:‏ السّفينتان كالدّابّتين، والملاحان كالرّاكبين إن كانتا لهما‏.‏

وأطلق ابن جزيّ قوله‏:‏ إذا اصطدم مركبان في جريهما، فانكسر أحدهما أو كلاهما، فلا ضمان في ذلك‏.‏

انتفاء الضّمان

ينتفي الضّمان - بوجه عامّ - بأسباب كثيرة، من أهمّها‏:‏

أ - دفع الصّائل‏:‏

120 - يشترط في دفع الصّائل، لانتفاء الإثم وانتفاء الضّمان - بوجه عامّ - ما يلي‏:‏

1 - أن يكون الصّول حالاً، والصّائل شاهراً سلاحه أو سيفه، ويخاف منه الهلاك، بحيث لا يمكن المصول عليه، أن يلجأ إلى السّلطة ليدفعه عنه‏.‏

2 - أن يسبقه إنذار وإعلام للصّائل، إذا كان ممّن يفهم الخطاب كالآدميّ، وذلك بأن يناشده اللّه، فيقول‏:‏ ناشدتك اللّه إلاّ ما خلّيت سبيلي، ثلاث مرّات، أو يعظه، أو يزجره لعلّه ينكفّ، فأمّا غيره، كالصّبيّ والمجنون - وفي حكمهما البهيمة - فإنّ إنذارهم غير مفيد، وهذا ما لم يعاجل بالقتال، وإلاّ فلا إنذار، قال الخرشيّ‏:‏ والظّاهر أنّ الإنذار مستحبّ، وهو الّذي قاله الدّردير‏:‏ بعد الإنذار ندباً‏.‏

وقال الغزاليّ‏:‏ ويجب تقديم الإنذار، في كلّ دفع، إلاّ في مسألة النّظر إلى حرم الإنسان من كوّة‏.‏

3 - كما يشترط أن يكون الدّفع على سبيل التّدرّج‏:‏ فما أمكن دفعه بالقول لا يدفع بالضّرب، وما أمكن دفعه بالضّرب لا يدفع بالقتل، وذلك تطبيقاً للقواعد الفقهيّة المقرّرة في نحو هذا، كقاعدة الضّرر الأشدّ يزال بالضّرر الأخفّ‏.‏

4 - وشرط المالكيّة أن لا يقدر المصول عليه على الهروب، من غير مضرّة تحصل له، فإن كان يقدر على ذلك بلا مضرّة ولا مشقّة تلحقه، لم يجز له قتل الصّائل، بل ولا جرحه، ويجب هربه منه ارتكاباً لأخفّ الضّررين‏.‏

الضّمان في دفع الصّائل

121 - ذهب الجمهور إلى أنّه إن أدّى دفع الصّائل إلى قتله، فلا شيء على الدّافع‏.‏ وللتّفصيل ر‏:‏ مصطلح‏:‏ ‏(‏صيال‏)‏‏.‏

ب - حال الضّرورة‏:‏

122 - الضّرورة‏:‏ نازلة لا مدفع لها، أو كما يقول أهل الأصول‏:‏ نازلة لا مدفع لها إلاّ بارتكاب محظور يباح فعله لأجلها‏.‏

ومن النّصوص الواردة في أحوال الضّرورة‏:‏

1 - حريق وقع في محلّة، فهدم رجل دار غيره، بغير أمر صاحبه، وبغير إذن من السّلطان، حتّى ينقطع عن داره، ضمن ولم يأثم‏.‏

قال الرّمليّ‏:‏ وفيه دليل على أنّه لو كان بأمر السّلطان لا يضمن، ووجهه‏:‏ أنّ له ولايةً عامّةً، يصحّ أمره لدفع الضّرر العامّ‏.‏ وبه صرّح في الخانيّة‏.‏

2 - يجوز أكل الميتة كما يجوز أكل مال الغير مع ضمان البدل إذا اضطرّ‏.‏

3 - لو ابتلعت دجاجة لؤلؤةً، ينظر إلى أكثرهما قيمةً، فيضمن صاحب الأكثر قيمة الأقلّ‏.‏

4 - إذا مضت مدّة الإجارة، والزّرع بقل، لم يحصد بعد، فإنّه يترك بالقضاء أو الرّضى، بأجر المثل إلى إدراكه رعايةً للجانبين، لأنّ له نهايةً‏.‏

ج - حال تنفيذ الأمر‏:‏

123 - يشترط لانتفاء الضّمان عن المأمور وثبوته على الآمر، ما يلي‏:‏

1 - أن يكون المأمور به جائز الفعل، فلو لم يكن جائزاً فعله ضمن الفاعل لا الآمر، فلو أمر غيره بتخريق ثوب ثالث ضمن المخرّق لا الآمر‏.‏

2 - أن تكون للآمر ولاية على المأمور، فإن لم تكن له ولاية عليه، وأمره بأخذ مال غيره فأخذه، ضمن الآخذ لا الآمر، لعدم الولاية عليه أصلاً، فلم يصحّ الأمر، وفي كلّ موضع لم يصحّ الأمر كان الضّمان على المأمور، ولم يضمن الآمر‏.‏

وإذا صحّ الأمر بالشّرطين السّابقين، وقع الضّمان على الآمر، وانتفى عن المأمور ولو كان مباشراً، لأنّه معذور لوجوب طاعته لمن هو في ولايته، كالولد إذا أمره أبوه، والموظّف إذا أمره رئيسه‏.‏

قال الحصكفيّ‏:‏ الآمر لا ضمان عليه بالأمر، إلاّ إذا كان الآمر سلطاناً أو أباً أو سيّداً، أو كان المأمور صبيّاً أو عبداً‏.‏

وكذا إذا كان مجنوناً، أو كان أجيراً للآمر‏.‏

د - حال تنفيذ إذن المالك وغيره‏:‏

124 - الأصل أنّه لا يجوز لأحد أن يتصرّف في ملك الغير بلا إذنه، فإن أذن وترتّب على الفعل المأذون به ضرر انتفى الضّمان، لكن ذلك مشروط‏:‏ بأن يكون الشّيء المأذون بإتلافه مملوكاً للآذن، أو له ولاية عليه‏.‏

وأن يكون الآذن بحيث يملك هو التّصرّف فيه، وإتلافه، لكونه مباحاً له‏.‏

وعبّر المالكيّة عن ذلك بأن يكون الإذن معتبراً شرعاً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ ممّن يعتبر إذنه، فلو انتفى الإذن أصلاً، كما لو استخدم سيّارة غيره بغير إذنه، أو قاد دابّته، أو ساقها، أو حمل عليها شيئاً، أو ركبها فعطبت، فهو ضامن‏.‏

أو انتفى الملك - كما لو أذن شخص لآخر بفعل ترتّب عليه إتلاف ملك غيره - ضمن المأذون له، لأنّه لا يجوز التّصرّف في مال غيره بلا إذنه ولا ولايته‏.‏

ولو أذن الآخر بإتلاف ماله، فأتلفه فلا ضمان، كما لو قال له‏:‏ أحرق ثوبي ففعل، فلا يغرم، إلاّ الوديعة إذا أذن له بإتلافها يضمنها، لالتزامه حفظها، ولو داوى الطّبيب صبيّاً بإذن من الصّبيّ نفسه، فمات أو عطب، ضمن الطّبيب، ولو كان الطّبيب عالماً، ولو لم يقصّر، ولو أصاب وجه العلم والصّنعة لأنّ إذن الصّبيّ غير معتبر شرعاً‏.‏

وكذا لو أذن الرّشيد لطبيب في قتله ففعل، لأنّ هذا الإذن غير معتبر شرعاً، وهذا عند المالكيّة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لو قال له اقتلني فقتله، ضمن ديته، لأنّ الإباحة لا تجري في النّفس، لأنّ الإنسان لا يملك إتلاف نفسه، لأنّه محرّم شرعاً، لكن يسقط القصاص، لشبهة الإذن، كما يقول الحصكفيّ، وهو قول للشّافعيّة‏.‏

وفي قول للحنفيّة‏:‏ لا تجب الدّية أيضاً، وهو قول سحنون من المالكيّة، وهو الأظهر عند الشّافعيّة، فهو هدر للإذن، وفي قول ابن قاسم‏:‏ يقتل، وهو قول الحنفيّة‏.‏

هـ – حال تنفيذ أمر الحاكم أو إذنه‏:‏

125 – إذا ترتّب على تنفيذ أمر الحاكم، أو إذنه بالفعل ضرر، ففيه خلاف وتفصيل‏.‏

فلو حفر حفرةً في طريق المسلمين العامّ، أو في مكان عامّ لهم، كالسّوق والمنتدى والمحتطب والمقبرة، أو أنشأ بناءً، أو شقّ ترعةً، أو نصب خيمةً، فعطب بها رجل، أو تلف بها إنسان، فديته على عاقلة الحافر، وإن تلف بها حيوان، فضمانه في ماله، لأنّ ذلك تعدّ وتجاوز، وهو محظور في الشّرع صيانةً لحقّ العامّة لا خلاف في ذلك‏.‏

فإن كان ذلك بإذن الحاكم أو أمره أو أمر نائبه‏:‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يضمن، لأنّه غير متعدّ حينئذ، فإنّ للإمام ولايةً عامّةً على الطّريق، إذ ناب عن العامّة، فكان كمن فعله في ملكه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لو حفر بئراً في طريق المسلمين فتلف فيها آدميّ أو غيره ضمن الحافر لتسبّبه في تلفه، أذن السّلطان أو لم يأذن ويمنع من ذلك البناء‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو حفر بطريق ضيّق يضرّ المارّة فهو مضمون وإن أذن فيه الإمام، إذ ليس له الإذن فيما يضرّ، ولو حفر في طريق لا يضرّ المارّة وأذن فيه الإمام فلا ضمان، سواء حفر لمصلحة نفسه أو لمصلحة المسلمين، وإن لم يأذن فإن حفر لمصلحته فقط فالضّمان فيه، أو لمصلحة عامّة فلا ضمان في الأظهر لجوازه، ومقابل الأظهر‏:‏ فيه الضّمان، لأنّ الجواز مشروط بسلامة العاقبة‏.‏

وفصّل الحنابلة ناظرين إلى الطّريق‏:‏ فإن كان الطّريق ضيّقاً، فعليه ضمان من هلك به، لأنّه متعدّ، سواء أذن الإمام أو لم يأذن، فإنّه ليس للإمام الإذن فيما يضرّ بالمسلمين، ولو فعل ذلك الإمام، يضمن ما تلف به، التّعدية‏.‏

وإن كان الطّريق واسعاً، فحفر في مكان يضرّ بالمسلمين، فعليه الضّمان كذلك‏.‏

وإن حفر في مكان لا ضرر فيه، نظرنا‏:‏ فإن حفر لنفسه، ضمن ما تلف بها، سواء حفرها بإذن الإمام، أو بغير إذنه وإن حفرها لنفع المسلمين - كما لو حفرها لينزل فيها ماء المطر، أو لتشرب منه المارّة - فلا يضمن، إذا كان بإذن الإمام، وإن كان بغير إذنه، ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ أنّه لا يضمن‏.‏

والأخرى‏:‏ أنّه يضمن، لأنّه افتات على الإمام‏.‏

الضّمان في الزّكاة

في ضمان زكاة المال، إذا هلك النّصاب حالتان‏:‏

الحالة الأولى

126 - لو هلك المال بعد تمام الحول، والتّمكّن من الأداء‏:‏

فذهب الجمهور، إلى أنّ الزّكاة تضمن بالتّأخير، وعليه الفتوى عند الحنفيّة‏.‏

وذهب بعض الحنفيّة كأبي بكر الرّازيّ، إلى عدم الضّمان في هذه الحال، لأنّ وجوب الزّكاة على التّراخي، وذلك لإطلاق الأمر بالزّكاة، ومطلق الأمر لا يقتضي الفور، فيجوز للمكلّف تأخيره، كما يقول الكمال‏.‏

الحالة الثّانية

127 - لو أتلف المالك المال بعد الحول، قبل التّمكّن من إخراج الزّكاة، فإنّها مضمونة عند الجمهور أيضاً، وهو الّذي أطلقه النّوويّ، وأحد قولين عند الحنفيّة، لأنّها كما قال البهوتيّ استقرّت بمضيّ الحول، وعلّله الحنفيّة بوجود التّعدّي منه‏.‏

والقول الآخر عند الحنفيّة‏:‏ أنّه لا يضمن‏.‏

128 - لو دفع المزكّي زكاته بتحرّ، إلى من ظنّ أنّه مصرفها، فبان غير ذلك ففي الإجزاء أو عدمه أي الضّمان خلاف ينظر في‏:‏ ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

الضّمان في الحجّ عن الغير

129 - ذهب جمهور الفقهاء، إلى جواز الاستئجار على الحجّ، وفي تضمين من يحجّ عن غيره التّفصيل التّالي‏:‏

أ - إذا أفسد الحاجّ عن غيره حجّه متعمّداً، بأن بدا له فرجع من بعض الطّريق أو جامع قبل الوقوف، فإنّه يغرم ما أنفق على نفسه من المال، لإفساده الحجّ، ويعيده من مال نفسه عند الحنفيّة‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ إذا جامع الأجير فسد حجّه، وانقلب له، فتلزمه الكفّارة، والمضيّ في فاسده، هذا هو المشهور‏.‏

وصرّح الجمل بأنّه لا شيء له على المستأجر، لأنّه لم ينتفع بما فعله، وأنّه مقصّر‏.‏

وقال المقدسيّ‏:‏ ويردّ ما أخذ من المال، لأنّ الحجّة لم تجزئ عن المستنيب، لتفريطه وجنابته‏.‏

ب - إذا أحصر الحاجّ عن غيره، فله التّحلّل وفي دم الإحصار خلاف‏:‏

فعند أبي حنيفة ومحمّد، وهو أحد وجهين عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة‏:‏ أنّه على الآمر، لأنّه للتّخلّص من مشقّة السّفر، فهو كنفقة الرّجوع ولوقوع النّسك له، مع عدم إساءة الأجير‏.‏

وعند أبي يوسف، وهو الوجه الثّاني عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة أنّه في ضمان الأجير، كما لو أفسده‏.‏

ج - إذا فاته الحجّ، بغير تقصير منه بنوم، أو تأخّر عن القافلة، أو غيرهما، من غير إحصار، بل بآفة سماويّة، لا يضمن عند الحنفيّة النّفقة، لأنّه فاته بغير صنعه، وعليه الحجّ من قابل، لأنّ الحجّة وجبت عليه بالشّروع، فلزمه قضاؤها‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ ولا شيء للأجير في المذهب‏.‏

دم القران والتّمتّع

130 - اختلف الفقهاء فيمن يجب عليه دم القران والتّمتّع في الحجّ عن الغير‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ دم القران والتّمتّع على الحاجّ - أي المأمور بالحجّ عن غيره - إن أذن له الآمر بالقران والتّمتّع، وإلاّ فيصير مخالفاً، فيضمن النّفقة‏.‏

وللشّافعيّة تفصيل وتفرقة بين ما إذا كانت الإجارة على الذّمّة أو العين، وكان قد أمره بالحجّ، فقرن أو تمتّع‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ دم التّمتّع والقران على المستنيب، إن أذن له فيهما، وإن لم يؤذن فعليه‏.‏

‏(‏ر‏:‏ قران وتمتّع‏)‏‏.‏

131 - أمّا ما يلزم من الدّماء بفعل المحظورات فعلى الحاجّ وهو المأمور لأنّه لم يؤذن له في الجناية، فكان موجبها عليه، كما لو لم يكن نائباً‏.‏

وكلّ ما لزمه بمخالفته، فضمانه منه كما يقول البهوتيّ‏.‏

الضّمان في الأضحيّة

132 - لو مضت أيّام الأضحيّة، ولم يذبح أو ذبح شخص أضحيّة غيره بغير إذنه، ففي ذلك تفصيل ينظر في ‏(‏أضحيّة‏)‏‏.‏

ضمان صيد الحرم

133 - نهى الشّارع عن صيد المحرم، بحجّ أو عمرة، حيواناً برّيّاً، إذا كان مأكول اللّحم - عند الجمهور - من طير أو دابّة، سواء أصيد من حرم أم من غيره، وذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً‏}‏‏.‏

وأطلق المالكيّة عدم جواز قتل شيء من صيد البرّ، ما أكل لحمه وما لم يؤكل، لكنّهم أجازوا - كالجمهور - قتل الحيوانات المضرّة‏:‏ كالأسد، والذّئب، والحيّة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور، بل استحبّ الحنابلة قتلها، ولا يقتل ضبّ ولا خنزير ولا قرد، إلاّ أن يخاف من عاديته‏.‏

وأوجب الشّارع في الصّيد المنهيّ عنه بالحرم وبالنّسبة للمحرم ضمان مثل الحيوان المصيد من الأنعام، فيذبحه في الحرم ويتصدّق به، أو ضمان قيمته من الطّعام - إن لم يكن له مثل - فيتصدّق بالقيمة، أو صيام يوم عن طعام كلّ مسكين، وهو المدّ عند الشّافعيّة، ونصف الصّاع من البرّ، أو الصّاع من الشّعير عند الحنفيّة‏.‏

وهذا التّخيير في الجزاء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏

ضمان الطّبيب ونحوه

134 - مثل الطّبيب‏:‏ الحجّام، والختّان، والبيطار، وفي ضمانهم خلاف‏:‏

يقول الحنفيّة‏:‏ في الطّبيب إذا أجرى جراحةً لشخص فمات، إذا كان الشّقّ بإذن، وكان معتاداً، ولم يكن فاحشاً خارج الرّسم، لا يضمن‏.‏

وقالوا‏:‏ لو قال الطّبيب‏:‏ أنا ضامن إن مات لا يضمن ديته لأنّ اشتراط الضّمان على الأمين باطل، أو لأنّ هذا الشّرط غير مقدور عليه، كما هو شرط المكفول به‏.‏

وقال ابن نجيم‏:‏ قطع الحجّام لحماً من عينه، وكان غير حاذق، فعميت، فعليه نصفا الدّية‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ في الطّبيب والبيطار والحجّام، يختن الصّبيّ، ويقلع الضّرس، فيموت صاحبه لا ضمان على هؤلاء، لأنّه ممّا فيه التّعزير، وهذا إذا لم يخطئ في فعله، فإن أخطأ فالدّية على عاقلته‏.‏

وينظر‏:‏ فإن كان عارفاً فلا يعاقب على خطئه، وإن كان غير عارف، وغرّ من نفسه، فيؤدّب بالضّرب والسّجن، وقالوا‏:‏ الطّبيب إذا جهل أو قصّر ضمن، والضّمان على العاقلة، وكذا إذا داوى بلا إذن، أو بلا إذن معتبر، كالصّبيّ‏.‏

وقال الشّافعيّ‏:‏ في الحجّام والختّان ونحوهما‏:‏ إن كان فعل ما يفعله مثله، ممّا فيه الصّلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصّناعة، فلا ضمان عليه، وله أجره‏.‏

وإن كان فعل ما لا يفعله مثله، كان ضامناً، ولا أجر له في الأصحّ‏.‏

وللشّافعيّة في الختان تفصيل بين الوليّ وغيره‏:‏ فمن ختنه في سنّ لا يحتمله، لزمه القصاص، إلاّ الوالد، وإن احتمله، وختنه وليّ ختان، فلا ضمان عليه في الأصحّ‏.‏

ضمان المعزّر

135 - قال الحنفيّة‏:‏ من عزّره الإمام فهلك، فدمه هدر، وذلك لأنّ الإمام مأمور بالتّعزير، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة في التّعزير الواجب، وقيّده جمهور المالكيّة بأن يظنّ الإمام سلامته، وإلاّ ضمن، وكذلك الشّافعيّة يرون التّعزير مقيّداً بسلامة العاقبة‏.‏

ومعنى هذا‏:‏ أنّ التّعزير إذا أفضى إلى التّلف لا يضمن عند الجمهور بشرط ظنّ سلامة العاقبة، لأنّه مأذون فيه، فلا يضمن، كالحدود، وهذا ما لم يسرف، كما نصّ عليه الحنابلة بأن يجاوز المعتاد، أو ما يحصل به المقصود، أو يضرب من لا عقل له من صبيّ أو مجنون أو معتوه، فإنّه يضمن حينئذ، لأنّه غير مأذون بذلك شرعاً‏.‏

وللتّفصيل يراجع مصطلح‏:‏ ‏(‏تعزير‏)‏‏.‏

ضمان المؤدّب والمعلّم‏:‏

136 - ذهب الفقهاء إلى منع التّأديب والتّعليم بقصد الإتلاف وترتّب المسئوليّة على ذلك، واختلفوا في حكم الهلاك من التّأديب المعتاد، وفي ضمانه تفصيل ينظر في مصطلحي‏:‏ ‏(‏تأديب ف 11، وتعليم ف 14‏)‏‏.‏

ضمان قطّاع الطّريق

137 - اختلف الفقهاء في تضمين قطّاع الطّريق ما أخذوه من الأموال أثناء الحرابة، وذلك بعد إقامة الحدّ عليهم فذهب جمهور الفقهاء إلى تضمينهم، وفي ذلك تفصيل ينظر في ‏(‏حرابة ف 22‏)‏‏.‏

ضمان البغاة

138 - لا خلاف في أنّ العادل إذا أصاب من أهل البغي، من دم أو جراحة، أو مال استهلكه أنّه لا ضمان عليه، وذلك في حال الحرب وحال الخروج، لأنّه ضرورة، ولأنّا مأمورون بقتالهم، فلا نضمن ما تولّد منه‏.‏

أمّا إذا أصاب الباغي من أهل العدل شيئاً من نفس أو مال فمذهب الجمهور - وهو الرّاجح عند الشّافعيّة - أنّه موضوع، ولا ضمان فيه‏.‏

وفي قول للشّافعيّة‏:‏ أنّه مضمون، يقول الرّمليّ من الشّافعيّة‏:‏ لو أتلفوا علينا نفساً أو مالاً ضمنوه، وعلّق عليه الشّبراملّسي بقوله‏:‏ أي بغير القصاص، وعلّله الشّربينيّ بأنّهما فرقتان من المسلمين، محقّة ومبطلة، فلا يستويان في سقوط الغرم، كقطّاع الطّريق، لشبهة تأويلها‏.‏

واستدلّ الجمهور بما روي عن الزّهريّ، أنّه قال‏:‏ وقعت الفتنة، وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فاتّفقوا على أنّ كلّ دم استحلّ بتأويل القرآن فهو موضوع، وكلّ مال استحلّ بتأويل القرآن فهو موضوع‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ ومثله لا يكذب، فوقع الإجماع من الصّحابة - رضي الله عنهم - على ذلك، وهو حجّة قاطعة‏.‏

ولأنّ الولاية من الجانبين منقطعة، لوجود المنعة، فلم يكن وجوب الضّمان مفيداً لتعذّر الاستيفاء، فلم يجب‏.‏

ولأنّ تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم من الرّجوع إلى الطّاعة فسقط، كأهل الحرب، أو كأهل العدل‏.‏

هذا الحكم في حال الحرب، أمّا في غير حال الحرب، فمضمون‏.‏

ضمان السّارق للمسروق

139 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المسروق إن كان قائماً فإنّه يجب ردّه إلى من سرق منه‏.‏

فإن تلف ففي ضمانه تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏سرقة ف 79، 80 ج 24‏)‏‏.‏

ضمان إتلاف آلات اللّهو

140 - آلة اللّهو‏:‏ كالمزمار، والدّفّ، والبربط، والطّبل، والطّنبور، وفي ضمانها بعض الخلاف‏:‏

فمذهب الجمهور، والصّاحبين من الحنفيّة، أنّها لا تضمن بالإتلاف وذلك‏:‏ لأنّها ليست محترمةً، لا يجوز بيعها ولا تملّكها، ولأنّها محرّمة الاستعمال، ولا حرمة لصنعتها‏.‏ ومذهب أبي حنيفة أنّه يضمن بكسرها قيمتها خشباً منحوتاً صالحاً لغير اللّهو لا مثلها، ففي الدّفّ يضمن قيمته دفّاً يوضع فيه القطن، وفي البربط يضمن قيمته قصعة ثريد‏.‏

ويصحّ بيعها، لأنّها أموال متقوّمة لصلاحيّتها بالانتفاع بها في غير اللّهو، فلم تناف الضّمان، كالأمة المغنّية، بخلاف الخمر فإنّها حرام لعينها، والفتوى على مذهب الصّاحبين، أنّه لا يضمنها، ولا يصحّ بيعها‏.‏

قالوا‏:‏ وأمّا طبل الغزاة والصّيّادين والدّفّ الّذي يباح ضربه في العرس، فمضمون اتّفاقاً، كالأمة المغنّية، والكبش النّطوح، والحمامة الطّيّارة، والدّيك المقاتل‏.‏

حيث تجب قيمتها غير صالحة لهذا الأمر‏.‏

وذكر ابن عابدين، أنّ هذا الاختلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه إنّما هو‏:‏ في الضّمان، دون إباحة إتلاف المعازف، وفيما يصلح لعمل آخر، وإلاّ لم يضمن شيئاً اتّفاقاً، وفيما إذا فعل بغير إذن الإمام، وإلاّ لم يضمن اتّفاقاً‏.‏

وفي غير عود المغنّي وخابية الخمّار، لأنّه لو لم يكسرها لعاد لفعله القبيح، وفيما إذا كان لمسلم، فلو لذمّيّ ضمن اتّفاقاً قيمته بالغاً ما بلغ، وكذا لو كسر صليبه، لأنّه مال متقوّم في حقّه‏.‏

ضمان ما يترتّب على ترك الفعل

141 - لمال المسلم حرمة كما لنفسه، وقد اختلف الفقهاء في تضمين من يترك فعلاً من شأنه إنقاذ مال المسلم من الضّياع، أو نفسه من الهلاك‏.‏

ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح ترك ‏(‏ف 12 - 14‏)‏‏.‏

ترك الشّهادة والرّجوع عنها

142 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من يترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى ضياع الحقّ الّذي طلبت من أجله آثم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏‏.‏

ونصّ المالكيّة على أنّ من ترك الشّهادة بعد طلبها منه وعلمه أنّ تركها يؤدّي إلى ضياع الحقّ يضمن‏.‏

وفي الرّجوع عن الشّهادة بعد أدائها وضمان ما يترتّب على ذلك تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏رجوع ف 36، 37‏)‏‏.‏

قطع الوثائق

143 - نصّ المالكيّة على أنّه إذا قطع وثيقةً، فضاع ما فيها من الحقوق، فهو ضامن، لتسبّبه في الإتلاف وضياع الحقّ، سواء أفعل ذلك عمداً أم خطأً، لأنّ العمد أو الخطأ في أموال النّاس سواء - كما يقول الدّسوقيّ - وكذا إذا أمسك الوثيقة بمال، أو عفو عن دم‏.‏ ولو قتل شاهدي الحقّ، أو قتل أحدهما وهو لا يثبت إلاّ بشهادتهما، فالأظهر أنّه يغرم جميع الحقّ، وجميع المال وفي قتله تردّد‏.‏

تضمين السّعاة

144 - إذا سعى لدى السّلطان لدفع أذاه عنه، ولا يرتفع أذاه إلاّ بذلك، أو سعى بمن يباشر الفسق ولا يمتنع بنهيه فلا ضمان في ذلك، عند الحنفيّة‏.‏

وإذا سعى لدى السّلطان، وقال‏:‏ إنّ فلاناً وجد كنزاً، فغرّمه السّلطان، فظهر كذبه، ضمن، إلاّ إن كان السّلطان عدلاً، أو قد يغرم أو لا يغرم، لكن الفتوى اليوم - كما نقل ابن عابدين عن المنح - بوجوب الضّمان على السّاعي مطلقاً‏.‏

والسّعاية الموجبة للضّمان‏:‏ أن يتكلّم بكذب يكون سبباً لأخذ المال من شخص، أو كان صادقاً لكن لا يكون قصده إقامة الحسبة كما لو قال‏:‏ وجد مالاً وقد وجد المال، فهذا يوجب الضّمان، إذ الظّاهر أنّ السّلطان يأخذ منه المال بهذا السّبب‏.‏

ولو كان السّلطان يغرم ألبتّة بمثل هذه السّعاية، ضمن‏.‏

وكذا يضمن لو سعى بغير حقّ - عند محمّد - زجراً للسّاعي، وبه يفتى ويعزّر ولو مات السّاعي فللمسعى به أن يأخذ قدر الخسران من تركته، وهو الصّحيح، وذلك دفعاً للفساد وزجراً للسّاعي، وإن كان غير مباشر، فإنّ السّعي سبب محض لإهلاك المال، والسّلطان يغرّمه اختياراً لا طبعاً‏.‏

ونقل الرّمليّ عن القنية‏:‏ شكا عند الوالي بغير حقّ، فضرب المشكوّ عليه، فكسر سنّه أو يده، يضمن الشّاكي أرشه، كالمال‏.‏

وتعرّض المالكيّة لمسألة الشّاكي للحاكم ممّن ظلمه، كالغاصب وقالوا‏:‏ إذا شكاه إلى حاكم ظالم، مع وجود حاكم منصف، فغرّمه الحاكم زائداً عمّا يلزمه شرعاً، بأن تجاوز الحدّ الشّرعيّ، قالوا‏:‏ يغرم‏.‏

وفي فتوى‏:‏ أنّه يضمن الشّاكي جميع ما غرّمه السّلطان الظّالم للمشكوّ‏.‏

وفي قول ثالث‏:‏ أنّه لا يضمن الشّاكي شيئاً مطلقاً، وإن ظلم في شكواه، وإن أثم وأدّب‏.‏ ونصّ الحنابلة على أنّه لو غرم إنسان، بسبب كذب عليه عند وليّ الأمر، فللغارم تغريم الكاذب عليه لتسبّبه في ظلمه، وله الرّجوع على الآخذ منه، لأنّه المباشر‏.‏

إلقاء المتاع من السّفينة

145 - قال الحنفيّة‏:‏ إذا أشرفت سفينة على الغرق، فألقى بعضهم حنطة غيره في البحر، حتّى خفّت السّفينة، يضمن قيمتها في تلك الحال، أي مشرفةً على الغرق، ولا شيء على الغائب الّذي له مال فيها، ولم يأذن بالإلقاء، فلو أذن بالإلقاء، بأن قال‏:‏ إذا تحقّقت هذه الحال فألقوا، اعتبر إذنه‏.‏

وقالوا‏:‏ إذا خشى على الأنفس، فاتّفقوا على إلقاء الأمتعة فالغرم بعدد الرّءوس إذا قصد حفظ الأنفس خاصّةً - كما يقول ابن عابدين - لأنّها لحفظ الأنفس، وهذا اختيار الحصكفيّ وهو أحد أقوال ثلاثة، ثانيها‏:‏ أنّه على الأملاك مطلقاً، ثالثها عكسه‏.‏

ولو خشى على الأمتعة فقط - بأن كانت في موضع لا تغرق فيه الأنفس - فهي على قدر الأموال، وإذا خشى عليهما، فهي على قدرهما، فمن كان غائباً، وأذن بالإلقاء، اعتبر ماله، لا نفسه‏.‏

ومن كان حاضرًا بماله اعتبر ماله ونفسه فقط‏.‏

ومن كان بنفسه فقط اعتبر نفسه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا خيف على السّفينة الغرق، جاز طرح ما فيها من المتاع، أذن أربابه أو لم يأذنوا، إذا رجا بذلك نجاته، وكان المطروح بينهم على قدر أموالهم، ولا غرم على من طرحه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا أشرفت سفينة فيها متاع وركاب على غرق، وخيف هلاك الرّكاب، جاز إلقاء بعض المتاع في البحر، لسلامة البعض الآخر‏:‏ أي لرجائها، وقال البلقينيّ‏:‏ بشرط إذن المالك‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ ويجب لرجاء نجاة الرّاكب‏.‏

وقالوا - أيضاً - ويجب إلقاؤه - وإن لم يأذن مالكه - إذا خيف الهلاك لسلامة حيوان محترم، بخلاف غير المحترم، كحربيّ ومرتدّ‏.‏

ويجب إلقاء حيوان، ولو محترماً، لسلامة آدميّ محترم، إن لم يمكن دفع الغرق بغير إلقائه‏.‏

وقال الأذرعيّ‏:‏ ينبغي أن يراعي في الإلقاء تقديم الأخسّ فالأخسّ قيمةً من المتاع إن أمكن، حفظاً للمال ما أمكن، قالوا‏:‏ وهذا إذا كان الملقي غير المالك‏.‏

وقالوا‏:‏ يجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي روح، وإلقاء الدّوابّ لإبقاء الآدميّين‏.‏

وإذا اندفع الغرق بطرح بعض المتاع اقتصر عليه‏.‏

قال النّوويّ في منهاجه‏:‏ فإن طرح مال غيره بلا إذن ضمنه، وإلاّ فلا، كأكل المضطرّ طعام غيره بغير إذنه‏.‏

قالوا‏:‏ ولو قال‏:‏ ألق متاعك عليّ ضمانه، أو على أنّي ضامن ضمن، ولو اقتصر على‏:‏ ألق، فلا، على المذهب - لعدم الالتزام -‏.‏

والحنابلة قالوا بهذه الفروع‏:‏

أ - إذا ألقى بعض الرّكبان متاعه، لتخفّ السّفينة وتسلم من الغرق، لم يضمّنه أحد، لأنّه أتلف متاع نفسه باختياره، لصلاحه وصلاح غيره‏.‏

ب - وإن ألقى متاع غيره بغير أمره، ضمنه وحده‏.‏

ج - وإن قال لغيره‏:‏ ألق متاعك فقبل منه، لم يضمنه له، لأنّه لم يلتزم ضمانه‏.‏

د - وإن قال‏:‏ ألق وأنا ضامن له، أو‏:‏ وعليّ قيمته، لزمه ضمانه، لأنّه أتلف ماله بعوض لمصلحته، فوجب له العوض على ما التزمه‏.‏

هـ – وإن قال‏:‏ ألقه وعليّ وعلى ركبان السّفينة ضمانه، فألقاه، ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يلزمه ضمانه وحده، لأنّه التزم ضمانه جميعه، فلزمه ما التزمه، وقال القاضي‏:‏ إن كان ضمان اشتراك، مثل أن يقول‏:‏ نحن نضمن لك أو على كلّ واحد منّا ضمان قسطه لم يلزمه إلاّ ما يخصّه من الضّمان لأنّه لم يضمن إلاّ حصّته، وإنّما أخبر عن الباقين بالضّمان، فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان‏.‏

وإن التزم ضمان الجميع، وأخبر عن كلّ واحد منهم بمثل ذلك، لزمه ضمان الكلّ‏.‏

منع المالك عن ملكه حتّى يهلك

146 - مذهب الحنفيّة والشّافعيّة، في مسألة منع المالك عن ملكه حتّى يهلك، وإزالة يده عنه، هو عدم الضّمان‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ لو منع المالك عن أمواله حتّى هلكت، يأثم، ولا يضمن‏.‏

نقل هذا ابن عابدين عن ابن نجيم في البحر، وعلّله بأنّ الهلاك لم يحصل بنفس فعله، كما لو فتح القفص فطار العصفور، فإنّه لا يضمن، لأنّ الطّيران بفعل العصفور، لا بنفس فتح الباب‏.‏

والمنصوص في مسألة فتح القفص، أنّه قول أبي حنيفة، وفي قول محمّد يضمن، وبه كان يفتي أبو القاسم الصّفّار‏.‏

واستدلّ بهذه المسألة صاحب البحر، على أنّه لا يلزم من الإثم الضّمان‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن حبس المالك عن الماشية لا ضمان فيه، وكذا لو منع مالك زرع أو دابّة من السّقي، فهلك لا ضمان في ذلك‏.‏

ويبدو أنّ مذهب المالكيّة في مسألة منع المالك، هو الضّمان، للتّسبّب في الإتلاف‏.‏

وهو أيضاً مذهب الحنابلة، إذ علّلوا الضّمان بأنّه لتسبّبه بتعدّيه‏.‏

ومن فروعهم في ذلك‏:‏ أنّه لو أزال يد إنسان عن حيوان فهرب يضمنه، لتسبّبه في فواته، أو أزال يده الحافظة لمتاعه حتّى نهبه النّاس، أو أفسدته النّار، أو الماء، يضمنه‏.‏

وقالوا‏:‏ لربّ المال تضمين فاتح الباب لتسبّبه في الإضاعة، والقرار على الآخذ لمباشرته‏.‏ فإن ضمّن ربّ المال الآخذ لم يرجع على أحد، وإن ضمّن الفاتح رجع على الآخذ‏.‏

تضمين المجتهد والمفتي

147 - قال المالكيّة‏:‏ لا شيء على مجتهد أتلف شيئاً بفتواه‏.‏

أمّا غير المجتهد، فيضمن إن نصّبه السّلطان أو نائبه للفتوى، لأنّها كوظيفة عمل قصّر فيها‏.‏

وإن لم يكن منتصباً للفتوى، وهو مقلّد، ففي ضمانه قولان، مبنيّان على الخلاف في الغرور القوليّ‏:‏ هل يوجب الضّمان، أو لا‏؟‏ والمشهور عدم الضّمان‏.‏

والظّاهر – كما نقل الدّسوقيّ – أنّه إن قصّر في مراجعة النّقول، ضمن، وإلاّ فلا، ولو صادف خطؤه، لأنّه فعل مقدوره، ولأنّ المشهور عدم الضّمان بالغرور القوليّ‏.‏

ونصّ السّيوطيّ على أنّه‏:‏ لو أفتى المفتي إنساناً بإتلاف، ثمّ تبيّن خطؤه كان الضّمان على المفتي‏.‏

تفويت منافع الإنسان وتعطيلها

148 - تعطيل المنفعة‏:‏ إمساكها بدون استعمال، أمّا استيفاؤها فيكون باستعمالها، والتّفويت تعطيل، ويفرّق جمهور الفقهاء بين استيفاء منافع الإنسان، وبين تفويتها، بوجه عامّ في تفصيل‏:‏

فنصّ المالكيّة على أنّ تعطيل منافع الإنسان وتفويتها، لا ضمان فيه، كما لو حبس امرأةً حتّى منعها من التّزوّج، أو الحمل من زوجها، أو حبس الحرّ حتّى فاته عمل من تجارة ونحوها، لا شيء عليه‏.‏

أمّا لو استوفى المنفعة، كما لو وطئ البضع أو استخدم الحرّ فإنّه يضمن ذلك، فعليه في وطء الحرّة صداق مثلها، ولو كانت ثيّباً، وعليه في وطء الأمة ما نقصها، ونصّ الشّافعيّة على أنّ منفعة البضع لا تضمن إلاّ بالتّفويت بالوطء، وتضمن بمهر المثل، ولا تضمن بفوات، لأنّ اليد لا تثبت عليها، إذ اليد في بضع المرأة لها، وكذا منفعة بدن الحرّ لا تضمن إلاّ بتفويت في الأصحّ، كأن قهره على عمل‏.‏

وفي قول ثان لهم‏:‏ تضمن بالفوات أيضاً، لأنّها لتقوّيها في عقد الإجارة الفاسدة تشبه منفعة المال‏.‏

ودليل القول الأوّل‏:‏ أنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد، فمنفعته تفوت تحت يده‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّ الحرّ لا يضمن بالغصب، ويضمن بالإتلاف، فلو أخذ حرّاً فحبسه، فمات عنده لم يضمنه، لأنّه ليس بمال‏.‏

وإن استعمله مكرهاً، لزمه أجر مثله، لأنّه استوفى منافعه، وهي متقوّمة، فلزمه ضمانها، ولو حبسه مدّةً لمثلها أجر، ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه يلزمه أجر تلك المدّة، لأنّه فوّت منفعته، وهي مال فيجوز أخذ العوض عنها‏.‏ والثّاني‏:‏ لا يلزمه لأنّها تابعة لما لا يصحّ غصبه‏.‏

ولو منعه العمل من غير حبس، لم يضمن منافعه وجهاً واحداً‏.‏

أمّا الحنفيّة فلا يقولون بالضّمان بتفويت منافع الإنسان، لأنّه لا يدخل تحت اليد، فليس بمال، فلا تضمن منافع بدنه‏.‏